المادة    
وقد انقسم النَّاس فيما يتعلق بهذا القُرْآن وبالتحدي به إِلَى ثلاثة طوائف رئيسية:
  1. أهل السنة والجماعة

    وهم كما هو معلوم دائماً عَلَى ما جَاءَ في الكتاب والسنة، فيقولون: إن كتاب الله عَزَّ وَجَلَّ مُتَحدىً به ومعجز، ومُفحم للخلق بلفظه وبمعناه، وأنه معجز في أحكامه، وفي إخباره بالمغيبات أو بالمستقبليات، وفي ما جَاءَ به من الحلال والحرام، والأمر والنهي، وفي قصصه، وفي نظمه، وفي بيانه، وفي كل أمر من أموره ولا يستطيع البشر أن يأتوا بمثله.
    وهذا الأمر واضح، لكن المُختلف فيه هو في مقدار الجزء المتحدى به من القرآن؟ فبعضهم أخذ يدقق في ذلك ويقول: هل السورة، أو هي أقل من السورة، وما القدر الذي يمكن من السورة؟
    والذي يظهر -كما في القرآن- أن أقل ذلك سورة من سور القُرْآن وإن كانت أصغر سورة، يعني: لو أن الإنس والجن اجتمعوا عَلَى أن يأتوا بمثل سورة: ((إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ))[الكوثر:1] مثلاً لما استطاعوا أن يأتو بمثله ولما استطاعوا أن يأتوا بمثل سورة: ((قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ)) [الإخلاص:1] ولا المعوذتين ولا ما أشبهها؛ لأن فيها من البيانات ومن المعاني ومن العبر والعظات والهداية والنور ما يعجز البشر عن إدراكه، ولا يمكن أن يأتوا به رغم وجازتها، هذا موجز مذهب أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ.
  2. المعتزلة

    بعض المعتزلة ولا سيما إبراهيم النظَّام يقول النظّام: إن المتحدى به في القُرْآن ليس هو الألفاظ وليس هو اللغة والبيان، وإنما هو المعاني، يعني: الإخبار بالمغيبات الماضية والمستقبلية التي يعجز النَّاس عن إدراكها أو عن معرفتها، أما النظم نفسه والبيان فمن الممكن لأي شاعر أو ناثر أن يأتي بعبارات مثل القُرْآن والعياذ بالله، هذا كلام إبراهيم النظَّام ولمَّا سُئل هل حصل ذلك من العرب؟ ولماذا لم يحصل؟
    قَالَ: لمْ يحصل من العرب.
    قيل له: لِمَ لمْ يحصل؟
    قَالَ: لأن الله عَزَّ وَجَلَّ هو الذي صرفهم، فهو أمر كوني لا يمكن أن يفعلوه، فالله عَزَّ وَجَلَّ صرفهم رغماً عن أنوفهم عن أن يأتوا بمثل هذا القرآن، وإلا فمن الممكن أن يأتوا بمثله وأن يركبوا كلاماً مثله والعياذ بالله، ولم يوافقه عَلَى هذا القول أحد من أهل السنة المعتبرين إلا أبو مُحَمَّد ابن حزم فقد وافق النظّام عَلَى أن الذي منع النَّاس من الإتيان بمثل هذا القُرْآن هو أن الله تَعَالَى صرفهم عنه، فهم لو حاولوا لما استطاعوا، والردُّ عَلَى ذلك واضح، فيُقَالَ:
    أولاً: مخالفته للإجماع، ولِمَا كَانَ عليه السلف الصالح رضوان الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى عليهم.
    وثانياً: أن الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى قَالَ: ((وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا))[البقرة:23-24] قالوا: قوله: ولن تفعلوا معناه: لن تستطيعوا، بمعنى أنكم لن تفكروا ولن تحاولوا، أي: قدراً وقضاء، فأنتم مصروفون عن ذلك، وإلا لو حاولتم ولو كَانَ لكم الإرادة والخيار لاستطعتم، لكن في الحقيقة أن قوله تعالى: ((وَلَنْ تَفْعَلُوا)) إخبار بالواقع، وليس أمراً كونياً قدرياً، يعني: حقيقة لن تفعلوا ذلك، فلتحاولوا إن شئتم ولستم مصروفين عن المحاولة، لكن لن تفعلوا ولن تستطيعوا أن تأتوا بمثله.
    ولهذا جاءت الحروف المقطعة في أوائل السور، ثُمَّ يأتي بعد هذه الحروف وصف القُرْآن الكريم كقوله: ((آلم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ))[البقرة:1-2].
    وقوله: ((حم * تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ))[غافر:1-2].
    وقوله: ((حم * تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ)) [الأحقاف:1-2].
    وقوله: ((آلمص))، ((ق))، ((حم))، ((عسق)) إِلَى آخره، وأكثر السور التي في أوائلها الحروف المقطعة يأتي بعدها ذكر القُرْآن ووصفه، أو القسم بالقرآن، أو ما يدل عَلَى أن المراد هو القرآن.

    ومعنى ذلك: أنكم أيها العرب! تتكلمون باللغة العربية وتتعاظمون وتتفاصحون بها وبلغ من تعظيم العرب للبلاغة والبيان أنهم كتبوا المعلقات العشر أو السبع، وعلقوها في الكعبة، وهي أعظم ما يفتخر بها العرب وذلك لما تحمله من بلاغة وبيان، وكانت العرب تفتخر وتفاخر بالفصاحة والبلاغة والبيان حتى أنهم يسمون كل من ليس عربياً أعجمياً، فمهما كَانَ عند الروم وعند الفرس من الحضارات، فإن العرب يسمون الدابة عجماء، ويسمون الذي لا يتكلم العربية أعجمياً يعني: كأنه كالدابة التي لا تتكلم بشيء فلا يعترفون ولا يعدون أي بيان إلا البيان العربي فقط.
    فالشاهد أن العرب كانوا يتحدون بذلك، ورَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ أفصحهم بياناً لأنه من قريش، ولأن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أعطاه الفصاحة والبيان وأعطاه جوامع الكلم، فكان صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من قبل أن يوحى إليه من أوسط العرب وأعلاهم في الفصاحة والبيان، فأتاه هذا الكلام الذي يختلف عن كلامه هو، رغم أن كلامه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في أعلى درجات البيان البشري، لكن أتاهم بكلام هو أعظم وأعلى من كلامه الذي يخاطبهم به في العادة ويقول: إن هذا من عند الله ويتحداهم أن يأتوا بمثله وليس ذلك التحدي لقريش أو للعرب فقط بل للإنس والجن ((قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْأِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا القُرْآن آنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً))[الإسراء:88] ثُمَّ جَاءَ التحدي بعشر سور مفتريات كما يزعمون.
    ثُمَّ جَاءَ التحدي في سورة يونس وفي سورة البقرة بسورة واحدة فقط ولو كانت مثل: ((إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ))[الكوثر:1] فإنهم لن يستطيعوا أن يأتوا بمثلها، رغم أنهم فكروا: ماذا نقول في هذا القرآن؟ شعر، أو سحر؟ كما فعل الوليد الذي فكر وقدر، فقتل كيف قدر، ثُمَّ قتل كيف قدر، ففكروا في ذلك، ولكنهم لم يجدوا إلا أن يقولوا: إنه كلام الله عَزَّ وَجَلَّ،
    وليس مجرد أنهم صُرِفوا عنه كما يقول النظَّام.
    ونوضح هذا بمثال من كلام المعتزلة على الصرفة، يقولون: إن النَّاس يمشون ويحركون أيديهم وأرجلهم -قاسوا الكلام عَلَى الحركات- فافترضوا افتراضاً لو أن نبياً من الأَنْبِيَاء جَاءَ فقَالَ: أنا نبي فإذا قال الناس: ما آية نبوتك؟ قال علامة نبوتي أنه لن يستطيع أحد منكم أن يمد يده أو يحرك رجله، قالوا: بمجرد أن يقول النبي ذلك سوف تتوقف جميع حركات الأمة التي يدعيها هذا النبي؛ لأن الله عَزَّ وَجَلَّ لما أعطاه هذه الآية فإنه سيمنع أُولَئِكَ عن الحركة رأساً! هذه الشبهة وهذا الخيال افترضوه في عقولهم وقاسوا عليه كتاب الله وكلام الله عَزَّ وَجَلَّ.
  3. مذهب الأشعرية والماتريدية

    الأشعرية والماتريدية يقولون: إن النظم أو الحروف المقروءة والمتلوة والمسموعة هذه ليست مُتحدىً بها ولانقول كما يقوله النظَّام وابن حزم من أن البشر مصروفون عنه، ولكن نقول: إن تعبير جبريل أو مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أو من عبر عنه كَانَ بإلهام من الله فلا يستطيع أحد أن يأتي به، فالإعجاز إذاً منحصر عَلَى الحقيقة في المعاني وفيما يتضمنه من الإخبار بالمغيبات والأحكام التي يعجز البشر عن الإتيان بمثلها.
    هذا موجز لكلام النَّاس واختلافهم في التحدي وفي الإعجاز بالقرآن، -والمقصود وهو محل الشاهد- من هذا هو قوله: [فنفي المشابهة من حيث التكلم، ومن حيث التكلم به، ومن حيث النظم والمعنى، لا من حيث الكلمات والحروف] يعني: الكلمات والحروف التي في القُرْآن موجودة عند العرب، إنما المتحدى به أن يركب مثل هذا الكلام لفظاً ومعنىً وهذا واضح لكل من تدبر ذلك.
    والأحرف المقطعة في أول السور مسألة فيها خلاف، فمن المفسرين من يقول: إن هذا مما استأثر الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى بعلمه، ومنهم من يقول: إنها رموز أو أسماء لما لا نعلم، ومنهم من يقول كما هو القول الراجح الذي اختاره أكثر العلماء المحققين، وهو الذي ذكره المُصنِّف هنا: إن المراد من هذه الحروف هو تحدي العرب وبيان أن القُرْآن من جنس كلامكم، وأن حروفه من جنس حروفكم ومن جنس لغتكم، فهو نزل بلسان عربي مبين ((إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ))[الزخرف:3]، ولكنكم مع ذلك لن تستطيعوا أن تأتوا بمثله، هذا إضافة إِلَى أن هناك فائدة أخرى في أن القُرْآن يبتدئ بهذه الحروف: وهي أن العرب لم يعهدوا ولم يسمعوا عن استخدام هذه الحروف بهذا الشكل، فإذا بدأ الإِنسَان يتكلم وابتدأ كلامه بشيء غريب غير معهود فإنه يشد الذهن أكثر، فالعرب لم تتعود أن تسمع إلا المعلقات والأشعار، والأشعار تبدأ عادة بالغزل وتنتهي بالموضوع الذي يريدون، وكذلك النثر والخطابة.
    فالعرب ما تعودوا أن يسمعوا ((آلم))، فعندما يسمعون هذه الحروف فإنها تشد الذهن وتنبهه ثُمَّ يقول بعد ذلك
    ((ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ)) [البقرة:2] أو ((حم * تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ))أو ((حم * تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ)) [الأحقاف:1-2] وإتيان القُرْآن بهذا الشكل فيه زيادة في النكاية بهم وإرغام لهم عَلَى الإقرار والخضوع والاعتراف بالعجز، والقصور عن أن يأتوا بمثل هذا القُرْآن فهذا هو المراد هنا،
    لكن كما ذكر رَحِمَهُ اللَّهُ أن أهل المقالات الفاسدة يتذرعون بما ورد في المعجزة أو في التحدي لنفي الحرف والصوت -وخاصة الحرف- كما يتذرعون بقوله ((لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ))[الشورى:11] لنفي الصفات أو التأويل.
    يقول: ولهذا أبو يوسف: "إن أدنى ما يُجزئ في الصلاة ثلاث آيات قصار أو آية طويلة، لأنه لا يقع الإعجاز بدون ذلك" وهذا مذهب الحنفية، إن كَانَ المراد عندهم أن القُرْآن يجزء منه آية أو سورة قصيرة عن الفاتحة، فهذا القول غير صحيح، وإن كَانَ المؤلف هنا لا يقصد الحكم الفقهي، وإنما يريد الاستشهاد به عَلَى العقيدة، فإن أبا حنيفة ينسب إليه أنه قَالَ: "لا تتعين قراءة الفاتحة في الصلاة بل يكفي أي شيء من القرآن" بدليل قوله تعالى: ((فَاقْرَأُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ)) [المزمل:20].
    فهذا المذهب مرجوح لما ثبت وصح عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قَالَ: {لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب} وقوله: {من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القُرْآن فهي خداج}، وإن كَانَ المقصود أنه بعد الفاتحة لا يجزئ إلا سورة قصيرة أو آية طويلة ليقع بها الإعجاز، فعدم الإجزاء هنا لا يعني الوجوب حتى عند الحنفية، بمعنى أن قراءة شيء من القُرْآن في الصلاة بعد الفاتحة ليس واجباً لا عند الحنفية ولا عند غيرهم.